مجتمع

هينتون وهوبفيلد: نهاية شتاء الذكاء الصناعي

في السبعينيات أوقفت كثير من دول العالم دعمها لبرامج الذكاء الصناعي بسبب قناعتها بعدم جدواه، رغم ذلك تمسك عالِمان بأبحاثهما حتى قادتهما إلى منصة نوبل.

future الأمريكي جون هوبفيلد والإنجليزي جيفري هينتون، العالمان الفائزان بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024

هل تتضايق من الرسالة المستفزة التي تطالبك في كل مرة تتصفح أحد المواقع أن تُعيد كتابة الحروف المشوهة قليلاً، أو الأرقام أو أن تحدد الصور التي تحتوي على إشارات المرور أو دراجة نارية، لتثبت للموقع أنك «لست روبوتاً»؟

حسناً، لا تحمل هماً للموضوع بعد الآن، فبعد اكتشاف عالمانا الفائزان بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، لن يساورك القلق حول المربعات التي تحتوي على جزء صغير من عمود إشارة المرور، لأن تلك الاختبارات لم تعد كافية لإثبات أنك «لست روبوتاً»، وسيتعين على اختبار CAPTCHA المستخدم للتمييز بين الذكاء الاصطناعي، والإنسان تطوير نفسه، لأن الذكاء الاصطناعي تطور هو الآخر.

كيف بدأ الذكاء الاصطناعي؟

ذهبت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 إلى الأمريكي جون هوبفيلد والإنجليزي جيفري هينتون بفضل اكتشافاتهما التي أسهمت في تطوير التعلم الآلي، باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية.

«لم أملك أدنى فكرة أن هذا سيحدث، أنا منصدم جداً» هكذا قال بروفيسور هينتون فور تلقيه مكالمة تكريمه من لجنة التحكيم السويدية.

على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي ذاع صيته وسط عامة الناس في السنوات الأخيرة فقط، فإن له تاريخه يمتد لأبعد من تصورنا، فبداية الذكاء الاصطناعي منذ عام 1900 أي منذ نحو القرن وربع. صحيح أن الخطوات الأبرز لم تظهر قبل عام 1950، إلا أن الأعمال المبكرة للخبراء أسهمت في هذه الخطوات بشكل أو بآخر.

الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الكمبيوتر يُعنى بخلق أنظمة تُحاكي دماغ الإنسان، وقدرته على حل المشكلات. يتم ذلك من خلال تزويده بقدر كبير من البيانات كنوع من الأمثلة، بعد ذلك يحاول أن يطابق المشكلة المُدخَلة مع أحد الأمثلة الموجودة، وهكذا يمكن أن يتدبر الأمر وحده، ويصل للحل.

لا تعتبر الآلة الحاسبة مثالاً على الذكاء الاصطناعي؛ لعدم قدرتها على التعلم أو التأقلم. تخضع الآلة الحاسبة للنظام الآلي، إذ يتم تزويدها منذ البداية بحزمة من البيانات، وأمثلة على العمليات التي تقوم بها، تشمل تلك العمليات الأساسية المطلوبة منها، وقد تقوم الآلة الحاسبة بتقسيم العمليات الحسابية إلى معطيات أقل تعقيداً من أجل حل الأمر، فمثلاً قد تقسم 8 إلى 4+4 أو 4*2 من أجل الوصول إلى أبسط صيغة تُمكنها من مطابقة العملية الحسابية مع الخوارزمية المُسجلة لديها، للحصول على الناتج، ما الفرق إذن لو كانت الآلة الحاسبة تعمل بنظام الذكاء الاصطناعي؟

هل تتذكر أول ما تعلمنا عملية الجمع؟ بدلاً من أن يسألك المعلم ما ناتج جمع 2+3 كان يسألك ماذا يحدث لو كان لديك برتقالتان، ثم اشتريت ثلاث برتقالات. هذا النظام أسهل للمخ البشري، ولأن الذكاء الاصطناعي يحاكي عمل المخ، فإذا أخبرته بتلك القصة، سوف يخبرك الناتج، وسوف يضع لك العملية الحسابية التي قادت إليه كذلك.

لدى الذكاء الاصطناعي قدرة على معرفة أي العمليات الحسابية سوف يسلك، وما هي خطوات تلك العملية، والاحتفاظ بتلك البيانات مستقبلاً ريثما يترتب عليها عملية حسابية أخرى، وهو شيء يفتقده النظام الآلي للآلة الحاسبة. إذا أردنا اختصار الأمر في جملة واحدة، فالآلة الحاسبة تحل العملية المدخلة من خلال اتباع طريقة حل أخبرتها بها مسبقاً عند إنشائها، بينما الذكاء الاصطناعي يكتشف الأمر وحده.

شتاء الذكاء الاصطناعي

شاع استخدام الذكاء الاصطناعي منذ السبعينيات في ألعاب الفيديو. عُرف الأمر باسم «تعلم الآلة/ Machine learning» واعتمد على القرارات البسيطة التي سبق وأُمليت على النظام سابقاً، يمنح المبرمج النظام عدة قواعد، إذا قام اللاعب بفعل الشيء رقم 1 سترد عليه بالشيء رقم 100، وهكذا.

لقد كان الأمر مفيداً إذا لم تملك شخصاً آخر تلعب معه، لكنه امتلك عدة عيوب. أحدها أن برمجة اللعبة تتطلب خبيراً فيها، برمجة لعبة كرة قدم تتطلب خبيراً في كرة القدم؛ لأنه على دراية بالحركات، والمسافات، وردود الفعل المناسبة، ومن ثَم أي عطب في البرنامج سيتطلب خبيراً آخر لإصلاحه، الأمر الذي يرفع التكلفة للغاية.

عيب أهم كان أن الخروج عن السيناريوهات المُضمنة في النظام سيجعل الذكاء الاصطناعي مقيداً، يقوم المبرمج بإلحاق عدة سيناريوهات في النظام، يمثل السيناريو تنبؤاً معيناً، بمعنى أن تخبر الذكاء الاصطناعي «لو قام اللاعب بفعل كذا، قم أنت بفعل كذا»، وبالطبع مع مرور الوقت تصير تلك السيناريوهات قديمة، وتحتاج إلى مبرمج آخر لإضافة المزيد أو التعديل عليها.

كان أمل الإنسان منذ نشأة الذكاء الاصطناعي أن يجعله يقود السيارات، ويهزم أي إنسان في الشطرنج، لكن بظهور تلك العيوب، تلاشت تلك الآمال، إذ رأى العلماء أن الذكاء الاصطناعي أكثر محدودية مما تصوروا، وعزف كثيرون عن دراسة الذكاء الاصطناعي، معتبرينه سراباً لن يقودهم إلى المياه.

عام 1973، تقدم عالم رياضيات تطبيقية يدعى جيمس لا يتهيل بتقرير إلى مجلس العلوم البريطاني، يؤكد فيه أن الخطوات المتخذة في مجال الذكاء الاصطناعي لم تكن بحجم التطلعات التي وعد بها العلماء، وعلى إثره قررت الحكومة البريطانية تقييد دعمها الذكاء الاصطناعي، وسحب الدعم المادي.

عُرفت تلك الفترة باسم «شتاء الذكاء الاصطناعي» نظراً للركود الذي عاناه مجال بحثه، وتراجع معظم الحكومات عن دعمه. في تلك الفترة كان هناك جيفري هينتون، الحائز على نوبل للفيزياء هذا العام، يدرس من أجل رسالة الدكتوراه، ورغم رؤيته الظلام المحلق حول مجال الذكاء الاصطناعي، ورغم التحذيرات التي سادت كثيراً عن خطورة الاستمرار في مجال الذكاء الاصطناعي في تلك الفترة، فإنه قرر أن يمضي قدماً، إذا كان هذا شتاء الذكاء الاصطناعي، فنحن من سيجلب الربيع.

جاء الربيع مع بروز «Deep Learning/ التعلم العميق» ولفهم التعلم العميق علينا العودة إلى ألعاب الفيديو. يظهر الأمر في النسخ الأخيرة من ألعاب الفيديو في الكرة من PES  وFifa. تخيل أن تلعب مباراة ضد الكمبيوتر، يبدأ الذكاء الاصطناعي في لعب المباراة، يقوم لاعب ما في فريقه بحركة معينة، ينتج عنها استحواذ فريقك على الكرة، يعلم الذكاء الاصطناعي أن تلك الحركة تقود لخسارته، وفي المباراة القادمة لا يقوم بها، والعكس بالعكس. 

ومع تدريبه على كثير من المباريات، يطور قدراته، بناء على المعلومات المعطاة لديه، والخبرة التي يكتسبها مع الوقت. يزيد التعلم العميق عن «تعلم الآلة/ Machine Learning» أنه فرعٌ منها لا يعتمد فقط على المدخلات التي أرفقها المبرمج مع النظام عند إنشائه، بل يبدأ النظام في التعلم من أخطائه، واستخدام النتائج كبيانات مدخلة مرة أخرى.

لذا فمستوى الكمبيوتر في أول مرة تلعب ضده، لن يكون ببراعة مستواه بعد مرور فترة، يحاكي الأمر تحسن مستواك أنت الآخر في اللعب بمرور الزمن، وكأن كليكما قد فهم سياق اللعبة، ويرجع السبب إلى استخدام «الشبكات العصبية الاصطناعية/ Artificial Neural Nets».

عن الشبكات العصبية الاصطناعية «ANN»

يعود تاريخ إنشاء الشبكات العصبية الاصطناعية أو التي تُعرف اختصاراً باسم «ANN» إلى خمسينيات القرن الـ20، إذ استوحاها العلماء من فكرة عمل الخلايا العصبية. إذا حملت إناء ساخناً تشعر بالحرارة، يمر هذا الإحساس عبر عصبون مُستقبل، ثم إلى مركز الحرارة في المخ الذي يعطي أوامره لعصب آخر -مُرسل- بسحب يدك للابتعاد عن مركز الحرارة.

عملت الـ«ANN» بنفس الكيفية، فشملت ردود أفعال على معطيات معينة، لكن كان هذا أبسط من المعتاد، لذا نشأت أنواع أكثر تطوراً من الشبكات متعددة الطبقات، تشمل معالجة البيانات على أكثر من مستوى، فبدلاً من أن يعالج دماغك أمر سخونة لهب الإناء، فإنه يعالج أكثر من أمر في ميقات واحد، مثل سخونة الإناء، ومدى شعورك بالألم، وهل أنت مضطر لحمل الإناء أم لا، ثم يُقرر بناء على كل تلك العوامل مجتمعة.

وُجدت شبكات اصطناعية تعمل بتلك الكيفية منذ البداية لكن هذا لم يكن كافياً لنجعل الآلة تُعلم نفسها بنفسها. وفي الثمانينيات، طور جيفري هينتون استخدام مبدأ «الانتشار العكسي/ Backpropagation» وهو خوارزمية تتضمن إعادة معالجة المدخلات عدة مرات، فيقوم مخك بإعادة التفكير في أمر الشعور بالحرارة عدة مرات للوصول لرد الفعل الأنسب.

استخدم هينتون نوعاً من الشبكات العصبية يُدعى «الشبكات العصبية الدورية/ Recurrent neural network» وفي تلك الشبكات يمكن استخدام المُخرجات كمدخلات من جديد، عبر عدة طبقات مخفية من المعالجة.

ما يحدث الآتي، تشعر يدك بالحرارة، ينقل العصب هذا الشعور للمخ، يشعر المخ بعدم الراحة، ويقوم المخ بإفلات الوعاء، فينكسر وتنتشر المياه الساخنة على قدميك مسببة لك الشعور بالألم، وهو ما حاولت تجنبه منذ البداية. 

في المرة التالية، حين تشعر اليد بالسخونة من حمل الإناء، يعالج المخ الأمر، ويفكر في إفلات الإناء، ولكنه لا يتصرف بناءً على هذا القرار بل ينقله إلى طبقة أخرى من المعالجة، تضمن الطبقة تلك في التفكير في النتائج التي حدثت مسبقاً، إن إفلات الإناء سيجعله ينكسر وينتشر الماء الساخن في كل مكان مسبباً لك الأذى، يُكامل المخ المعلومات ويزن العواقب، ويتخذ قراراً بناء على ذلك، وإذا لم يكن القرار في مصلحة المخ أو شبكة «RNN» ففي المرة التالية التي تمسك فيها بإناء ساخن سوف يُعيد المخ المعالجة مجدداً عبر تلك الطبقات.

أنا لستُ برنامج روبوت

بنى جيفري هينتون أعماله اعتماداً على أعمال الأمريكي جون هوبفيلد الذي شاركه الجائزة هذا العام، لكن كل منهما اتبع مساراً مختلفاً في أعماله. على عكس هينتون قام هوبفيلد باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية في تطوير الذكاء الاصطناعي في مجال «الذاكرة الترابطية/ Associative Memory».

لا يُخزن المخ البشري المعلومات بمنأى عن بعضها البعض، فالطريقة الأسهل لحفظ المعلومات هي عبر ربطها ببعضها البعض. ترتبط الخلايا العصبية الحاملة لتلك المعلومات ببعضها عن طريق نقاط التشابك العصبي، وعند قيامك باسترجاع المعلومات، تنشط تلك النقاط، وعند بلوغ هذا النشاط حداً معيناً، تتحول تلك المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد. لذا فالطريقة الأضمن لحفظ معلومة جديدة هي عبر ربطها بمعلومة قديمة، تتذكرها جيداً.

أسس هوبفيلد شبكات اصطناعية عُرفت باسمه، تعتمد على المبدأ ذاته. يضع هوبفيلد عدة صوراً لنمط معين، ليتعرف عليهم النظام، كأن يضع 100 صورة مختلفة للحرف J، وصوراً أخرى لحروف أخرى، ثم يختبر النظام بصورة مختلفة للحرف J. يبدأ النظام بالبحث في الأنماط المُسجلة لديه، ليوجد أكبر كم من التشابه بين النمط المُدخَل، والأنماط المُسجلة لديه، ليُعرف في النهاية هذا الحرف بأنه J.

يستخدم هوبفيلد نظاماً مشابهاً لنظام التعرف الذي يفعله المخ البشري. إذا أردت أن تتذكر حدثاً مر عليه يومان، ربما ستبدأ في تذكر الأماكن التي ارتدتها منذ يومين، ثم الأشخاص الذين قابلتهم. يقوم المخ بالتجول وسط الذكريات، يقابل مشبكاً عصبياً مرتبطاً بالمكان الذي زُرته من يومين، ويقوده هذا المشبك إلى آخر، وآخر، حتى تصل في النهاية إلى الذكرى المنشودة.

تعمل شبكات هوبفيلد بالتقنية ذاتها، تُبرمج الشبكات بعدد مهول من الأنماط المحفوظة، ثم عند اختبارها نُدخل نمطاً مُشوهاً أو غير مكتمل، وتقوم الشبكة بمطابقته بالأنماط الموجودة لتصل إلى أقربهم شبهاً به.

تخيل الأمر كمجموعة من الصور الموجودة في الشبكة، تحول الشبكة كل صورة إلى نظام معين من الأكواد الخاصة بها، كأن يرمز رمزاً محدداً إلى منطقة مضيئة وآخر إلى مظلمة، المهم أن يختزل النظام الصورة في شكل أنماط.

عند إدخال صورة من الصور المخزنة مع تشويه جزء منها أو إنقاصه، تقوم الشبكة بتحويل الصورة المدخلة إلى نظام أكواد هي الأخرى، ثم تقوم بمقارنة كود الصورة المدخلة مع كود كل صورة على حدة، تستخدم شبكات هوبفيلد نظام التشفير الثنائي (0.1) وعند مقارنة الكود المدخل بالأكواد الموجودة، فإن النظام يعطي طاقة أقل كلما تشابهت الأكواد. يقارن النظام المدخلات بكل الصور الموجودة حتى يصل إلى أقل قدر من الطاقة، وهكذا انتهت المهمة.

يفتح الاكتشاف الذي حصد نوبل هذا العام آفاقاً جديدة على المستقبل، في التعلّم، قد يتمكن من توقع خصائص الجزيئات، وبناء تراكيب البروتينات، قد يُستخدم في تعديل الصور، واستعادتها، لكن الخوف الأكبر من قدرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ القرارات تتمثل في الأسلحة التي تُدار بواسطة الذكاء الاصطناعي، أن تعطي السلاح القدرة على العبث بضحاياه وفقاً لقراراته، ربما نكتشف يوماً ما أن ربيع  الذكاء الاصطناعي كان إيذاناً باندلاع رياح خماسين تقلب البشرية رأساً على عقب.

# الذكاء الاصطناعي # تقنية # نوبل في الفيزياء # جائزة نوبل # جائزة نوبل 2024

5 استراتيجيات مهمة لاحتراف هندسة الأوامر
لوغاريتمات البروتين: الطريق إلى نوبل في الكيمياء
«نوبل» في الاقتصاد 2024: أثر المؤسسات في ازدهار المجتمعات

مجتمع